إطلالة فقهية مالكية ترجو حط الرحال بين أهلها:
.قال الإمام العلامة ابن عاشر:
( إنْ سَلَّمَ الإمامُ قاَمَ قَاضِـيا *** أَقْوالَـهُ وَفي الفِـعَالِ بَانِـيا ).
-----------------------------
قلت في تقييد دليلها وبالله التوفيق: عنوان هذا البيت لتحديد مسألته : (هل ما أدرك المسبوق هو أول صلاته أم آخرها ؟)
-----------------------------
هذه المسألة من المسائل الدقيقة في الاستنباط الفقهي عند السادة المالكية، وعلى طالب العلم أن يتقن المشهور المختار فيها ويكتفي به ولا يشغلن باله بالأخذ والرد فيها، قال الإمام القلشاني : (وهي من المسائل المهمة من حيث تحرير صورها وتعيين مواضعها حتى سمعت شيخنا أبا الحجاج الصنهاجي رحمه الله يقوله : كثر الخوض فيها من غير تحقيق، ولم أسمع من أهل وقتنا هذا سوى نقل الأقوال الثلاثة المعهودة). «التحرير والتحبير» (ج3/ص30).
وقد ربطها رحمه الله بمسألة المسافر مع المقيم، ومسألة الراعف حيث يبني ويقضي، فمن تعلق له غرض علمي بتوسيع مداركه فعليه بالمصدر المشار إليه فإنه مفيد غاية.
.
قلت : والأصل فيها مبني على فهم حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الموطأ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «إذَا ثُوِّبَ بِالصَّلاةِ فَلا تَأْتُوهَا وَأَنْتُمْ تَسْعَوْنَ وأَتُوهَا وَعَلَيْكُمْ السَّكِينَةُ فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا فَإِنَّ أَحَدَكُمْ فِي صَلاةٍ مَا كَانَ يَعْمِدُ إلَى الصَّلاةِ» الموطأ بشرحه «المنتقى» (ج1/ص132)، وهو في الصحيحين أيضا.
وفي رواية لأحمد : «وَمَا فَاتَكُمْ فَاقْضُوا» المسند (ر7250) وغيره.
وفي رواية مسلم : «صَلِّ مَا أَدْرَكْتَ، وَاقْضِ مَا سَبَقَكَ» (ر602).
فقوله : «فَأَتِمُّوا» يقتضي ظاهره أن ما أدرك أول صلاته وأن الذي يقضي هو آخرها، ويحتمل أن يريد بالتمام إكمال الصلاة، فلا يكون فيه دليل على أن الذي يأتي به بعد سلام الإمام هو آخرها.
وقوله : «فَاقضُوا» يقتضي ظاهره أن ما أدرك هو آخر الصلاة، وما يأتي به هو أولها، ويحتمل أن يعبر بالقضاء عن التمام والوفاء كما تقول : قضيت الحج وقضيت الدين إذا أديت ووفيت. ينظر «التنبيه على مبادئ التوجيه» (ج1/ص487 وما بعدها).
.
ولهذا قال الإمام الرجراجي : (فاختلف في ذلك على ثلاثة أقوال :
أحدها : أن ما أدرك هو أول صلاته، وما فاته هو آخرها، وهو مذهب الشافعي.
والثاني : أن ما أدرك هو آخر صلاته، وما فاته هو أولها، وهو مذهب أبي حنيفة.
والقولان عن مالك.
والقول الثالث : الفرق بين الأقوال والأفعال ؛ فقال : يقضي في الأقوال - يعني : القراءة، ويبنى في الأفعال ، يعني : الأداء.
وهذا القول الثالث هو قوله في «المدونة»، وهذا هو الصحيح عن مالك، والقولان الآخران حكاهما أبو محمَّد عبد الوهاب في المذهب عن مالك) «مناهج التحصيل» (ج1/ص370).
.
وعليه فالمشهور المختار للسادة المالكية المبني على الجمع بين الروايتين هو ما في «المدونة» ونصه: (قال مالك فيمن أدرك من صلاة الإمام ركعة في الظهر أو العصر أو العشاء ؛ فإنه يقرأ خلف الإمام بأم القرآن وحدها فإذا سلم الإمام وقام يقضي ما فاته يقرأ بأم القرآن وسورة، فإذا ركع وسجد جلس فتشهد ؛ لأن ذلك وسط صلاته، والذي جلس مع الإمام لم يكن له ذلك بجلوس إنما حبسه الإمام في ذلك الجلوس، فإذا قام من جلسته التي هي وسط صلاته قرأ بأم القرآن وسورة ثم يركع ويسجد ثم يقوم فيقرأ بأم القرآن وحدها ثم يرجع ويسجد ويتشهد ويسلم) (ج1/ص187).
.
قلت : ومن بنى مطلقا أو قضى مطلقا صح منه مراعاة للقائل به، والله أعلم.
.
فيكون معنى القضاء عند السادة المالكية كما عرفه الإمام ابن عرفة : «فعل ما فات بصفته». قال شارحه الرصاع التونسي : معناه فعل الفائت بصفة ما يكون عليه إن جهرا فجهرا وإن سرا فسرا، وإن كان بالفاتحة وسورة فكذلك. «شرح حدود ابن عرفة» (ص62) الطبعة الأولى للمكتبة العلمية.
وهو معنى قول الشيخ خليل في «التوضيح» : (والبناء : أن يجعل ما أدرك مع الإمام أول صلاته. والقضاء : أن يجعل ما أدركه آخر صلاته) (ج1/ص487).
.
قلت : فتأمل رحمك الله لتعلم تمام دقة المنهج عند الإمام مالك رحمه الله، إذ لو فسر القضاء ها هنا بالأداء والإتمام فقط لاختل المنهج الاستنباطي المبني على الجمع بين الروايتين على مذهب «المدونة»، والله الموفق.
الدكتور : عبد الكريم قبول
جزاكم الله خير الجزاء
ردحذف